من ناتانيا إلى رام الله | أرشيف

الكاتب الإسبانيّ خوان غويتسولو

 

المصدر: «مجلّة الكرمل».

الكاتب (ة): خوان غويتسولو.

زمن النشر: 1 تمّوز 2002.  

 


 

جاءت عودتي إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة بعد فترة انقطاع طويلة لتؤكّد بصورة لافتة كيف يكرّر التاريخ نفسه بصورة بالغة الفظاظة. كنت في 1988 قد اجتزت الضفّة الغربيّة وشريط غزّة صحبة فريق من التلفزيون الإسبانيّ لتصوير فيلم عن «الانتفاضة الأولى»، ثمّ في 1995 كموفد خاصّ من صحيفة «الباييس» الإسبانيّة إبّان الفاصل الباعث على اليأس، فاصل «اللّا سلم واللّا حرب» الّذي ساد بُعَيْد توقيع «اتّفاقيّة أوسلو» مباشرة: كانت القوّات الإسرائيليّة قد أخلت بعض المناطق الفلسطينيّة ولكنّها بقيت تتحكّم بها بصورة شديدة الصرامة. يومذاك، جاء انقشاع وهم السكّان الفلسطينيّين ليعزّز تشاؤمي حول مستقبل المنطقة. والآن، بعد سبع سنوات، صارت الأوضاع أسوأ ممّا كانت عليه في 1988. في أثناء الانتفاضة الأولى، كنت ترى إلى انتفاضة جماهيريّة يقابلها قمع بالغ الضراوة. ومنذ دخول شارون باحة الأقصى في القدس، صرنا نشهد حربًا تخوضها لا دولتان بل دولة مزوّدة بجيش قويّ وشديد التحديث، وشعب مشتّت بلا حدود وفقير التسليح خاضع إلى نصيبه اليوميّ من حملات الانتقام الجماعيّة والإهانات الّتي تتمخّض دون انتهاء عن مرشّحين للشهادة مستعدّين لتفجير أنفسهم في عمليّات انتحاريّة ضدّ قوّة الاحتلال العسكريّة، وكذلك ضدّ مدنيّين أبرياء داخل الحدود المعترف بها دوليًّا للدولة العبريّة.

غادر الباص الّذي كان يقلّ وفد البرلمان العالميّ للكتّاب من تلّ أبيب إلى رام الله «الأوتوستراد» الّذي يصل تل أبيب بالقدس عند منتصفه، وانعطف يسارًا وانتهج إحدى الطرق المعبّدة بالإسفلت الّتي تربط بين مختلف المستوطنات الإسرائيليّة في الأراضي المحتلّة منذ حرب الأيّام الستّة. الطريق الموصلة بين المدينة المقدّسة ورام الله ممنوعة، ومئات الفلسطينيّين المقيمين في القدس أو العاملين فيها ينتظرون وقوفًا وصامتين ريثما يتمّ تفتيشهم. ولذا فقد كان علينا أن نقوم بانعطافة طويلة عبر الشبكة العنكبوتيّة للطرق الثانوية المنتشرة حول المدن والتجمّعات السكنيّة الفلسطينيّة المحاصرة.

وكما ذكرت قبل سنوات، فإنّ منظر الضفّة الغربيّة وشريط غزّة مفتّت ومهلهل كمثل خامة مصنوعة من رقع عديدة. والأسلاك الشائكة تحيط سواءً بسواء بالمستوطنات، والمواقع العسكريّة، والمناطق المستقلّة نظريًّا والواقعة تحت سيادة السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. هذه الأسلاك تحمي وتستبعد، تجمع مناطق مفصولة وتفصل بين مناطق متجاورة، وترسم في خاتمة المطاف متاهة من «الجزر» المتناثرة الّتي يجتذب بعضها البعض ويقصيه في آن معًا. وإن تعقّد نظام الانتقال والحركة هذا، بتشعّباته الملتوية الكثيرة، ليبيّن عن إرادة المحتلّ في تشظية المناطق المحتلّة إلى وفرة من النتف، والشذرات، والجزيئات الّتي يجهل بعضها البعض، ومع ذلك فهي منغرسة بعضها في داخل بعض.

"هذه الأسلاك تحمي وتستبعد، تجمع مناطق مفصولة وتفصل بين مناطق متجاورة، وترسم في خاتمة المطاف متاهة من «الجزر» المتناثرة الّتي يجتذب بعضها البعض ويقصيه في آن معًا"...

كان الظلام قد أرخى سدوله عندما وصلنا أخيرًا نقطة التفتيش المتاخمة مخيّم «قلنديا» الّذي هو معزل (غيتو) مشين. وبعد انتظار دام دقائق، سُمِحَ لنا بدخول رام الله تتقدّمنا سيّارة للشرطة الفلسطينيّة، ونزلنا في أحد الفنادق الّتي بُنِيَت في فترة حمّى البناء الّتي تلت التوقيع على «اتّفاقيّة أوسلو». في داخل الفندق كان ينتظرنا محمود درويش وممثّلون آخرون للثقافة الفلسطينيّة. لا داعي للتأكيد على أنّ أعضاء وفدنا والصحفيّين الّذين يرافقوننا كانوا نزلاء الفندق الوحيدين. فمن ذا الّذي يأتي لإمضاء عطلته أو للتفاوض حول بعض العقود في مدينة تعيش حالة حصار، مدينة معذّبة تضمّد ببالغ العناء جراحها الحديثة العهد وتنتظر ببالغ الخشية جراحًا قادمة أشدّ هولًا؟

عندما يبزغ الصباح في رام الله، الّتي يذكّرني انقسامها المفاجئ إلى مرتفعات ومنخفضات بجغرافيّة عمّان، فإنّ هدوءًا ريفيًّا يسود فيها. وبعد لحظات فحسب، اكتشفت من نافذتي أكياس الرمل الّتي تحمي نقطة إسرائيليّة للرمي تبعد عن الفندق مسافة مائتيّ متر. وللذهاب إلى «جامعة بير زيت» الفلسطينيّة، على الطلبة، والأساتذة، وسكّان الأحياء والضواحي المجاورة أن يغادروا وسائط النقل الّتي جاؤوا فيها ويسيروا على الأقدام مسافة خمسمائة متر في طريق قطعها الجيش الإسرائيليّ، ليتكدّسوا بعد ذلك في سيّارات أجرة أو باصات صغيرة تنتظرهم في الجهة الأخرى. ولا يستجيب هذا كلّه إلى إجراء أمنيّ، بل إلى عقوبة مفروضة على السكّان أجمعين. فبالوقفات الفاصلة بين نقطتين عسكريّتين يسعى شارون بجميع الوسائل إلى إهانة الفلسطينيّين مدفوعًا بالأمل العبثيّ وغير المعقول في ثلم إرادتهم في المقاومة وكسر انتفاضتهم.

ولقد أعربت روح مقاومة الجور هذه عن نفسها بكامل الألق في المهرجان الموسيقيّ والشعريّ الّذي أقيم في مسرح «القصبة» في وسط المدينة. فالحضور الغفير أطلق بكامل العفويّة العنان لعواطف وانفعالات تراكمت في آماد الاحتلال الأخيرة. كانت آثار الحرب مرئيّة في كلّ مكان. وفي مخيّم «الأمعري» للّاجئين رأينا في آثار الهجوم العنيف على مدرسة وفي تهديم عشرين مسكنًا بنسف الحيطان الفاصلة بينها، صورة أولى عمّا ينتظرنا في غزّة من مشاهد.

"بالوقفات الفاصلة بين نقطتين عسكريّتين يسعى شارون بجميع الوسائل إلى إهانة الفلسطينيّين مدفوعًا بالأمل العبثيّ وغير المعقول في ثلم إرادتهم في المقاومة وكسر انتفاضتهم"...

لم يكن مخطّطًا في برنامجنا البدئيّ لأن نقابل ياسر عرفات. ولذا فقد أبديت شيئًا من عدم الموافقة عندما اقتُرح علينا ذلك. فالاحتكاك برؤساء الدولة لم يستهوني يومًا، وأنا أعلم أنّ الكاتب ورجل الدولة يمارسان عملهما في مستويين مختلفين. ولا شيء ممّا يمكن أن يقوله رجال السياسة يمكن أن يهمّني حقًّا. ومع ذلك، فقد انصعت لرأي الأغلبية مؤكّدًا في الأوان ذاته أنّني أزوره لا كرجل دولة، بل كسجين فلسطينيّ محروم أسوة ببقيّة أبناء شعبه من حقوقه وحرّيّته في الحركة. وفي اللحظة الّتي أكتب فيها هذه الصفحات، أعاين صور مداهمة «المقاطعة» الّتي تضمّ مقرّ الرئاسة والّتي استقبلنا فيها عرفات. وبصورة مفارقة، فإنّ تكالب شارون الشخصيّ يعيد لأبي عمار إشعاعه المعنويّ الّذي فقد بعض مضائه في الآونة الأخيرة. وكما في بيروت في 1982، سيخرج الرجل من هذا الامتحان ظافرًا، ميّتًا أو حيًّا، وما لن يفهمه الجنرال أبدًا هو أنّ عرفات يكبر في شقاء هزائمة وينبعث من رماده كالفينق.

طوال الرحلة من رام الله إلى غزّة راح يمرّ أمام أعيننا شريط المستوطنات المبنيّة في الغالب على أنقاض القرى الفلسطينيّة. وهو يذكّرنا من جديد بخانات شطرنج قائمة على الإقصاء المبتادل بين هذه المستوطنات وما بقي من المناطق المحرّرة، وذلك إلى حدّ إمكان أن ينخدع الزائر غير العليم بصدد ما تنطوي عليه أو تمنعه، وبخصوص ما يقبع «خارجًا» أو «في الداخل».

 

من زيارة وفد الكتّاب برفقة محمود درويش إلى مقرّ الرئاسة في رام الله عام 2002 | Getty

 

إنّ نقطة المرور المدعوّة «إيرتز» («أرض» بالعبريّة) الّتي تقف فيها سيّارات عديدة تابعة لوكالة غوث اللاجئين، هي مساحة واسعة خالية ومحاطة بأسلاك شائكة. والفلسطينيّون الّذين يعملون في إسرائيل ليس مرخّصًا لهم اجتياز الحدود دومًا، ممّا يزيد من التدهور الاقتصاديّ في شريط غزّة. بعد انتظار طويل، دخلنا في الأرضي الفقيرة والمنكوبة المتروكة للسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. وبسبب من تأخّرنا، انطلقنا مسرعين إلى مخيّمات اللاجئين في خان يونس ورفح، ولأنّ الطريق الرئيسة مقطوعة، فقد اضطُّررنا إلى انتهاج طريق ساحلية حتّى دير البلح. وفي كتلة مستوطنات «غوش قطيف» القريبة، بقاعدتها العسكريّة الضخمة المحميّة بأسلاك شائكة، وشبكات مكهربة، ومراصد، لا تَرى فحسب مرائب، وثكنات، ومستودعات، ورادارات عملاقة، وأبراج مراقبة واتّصال، وعددًا هائلًا من البلدوزرات، والسيّارات القابلة للتنقّل على جميع أنواع الطرق، بل كذلك مجمّعات سياحيّة، وفنادق، و«بلاحات» محجوزة للمستوطنين.

إنّ هذا النمط من المستوطنات لم يكفّ عن نشر أذرعته الأخطبوطيّة طيلة السنوات السبع الأخيرة؛ فقد فجّر جيش الاحتلال من أجل ذلك مئات المساكن واقتلع مئات الأشجار المثمرة. والآن بالذات، يقيم الإسرائيليّون جسرًا يعتلي الطريق المقطوعة، وذلك للوصل بين «غوش قطيف» ومستوطنة «كفار داروم». في حين يتضاءل الشريط الّذي يتزاحم فيه أكثر من مليون فلسطينيّ ويتقلّص يومًا بعد يوم. وبالمقابل لا يزيد عدد المستوطنين الّذين يشغلون أربعين بالمئة من مساحة الأرض القابلة للزراعة على ثلاثة آلاف. ولا يقيم في مستوطنة «نتساريم» سوى ست وسبعين نسمة.

كان ينتظرنا في خان يونس منظر خراب مروّع: هياكل مساكن وواجهات منخولة بالرصاص، ومخيّم للّاجئين سوّته بالأرض صواريخ أطلقتها الحوّامات، وخرائب مشّطتها البلدوزرات، وجدار إسمنتيّ يعلو جدار برلين. يومًا بعد يوم تكبر المستوطنات وتقضم فضاء السكّان الحيويّ بلا رحمة.

"لا يريد شارون مُجاورين، بل عبيدًا كما في عهود إسبرطة. ولن يكون من سلام ولا من هدنة ممكنة دون اتّفاق يضمن للفلسطينيّين الحياة، والعمل، والكرامة داخل دولة معترف بحدودها دوليًّا"...

والوضع أكثر مأساويّة في رفح: فمخيّم اللاجئين هذا المقام قرب الحدود المصريّة، والّذي اقتطع الجيش الإسرائيليّ فيه لنفسه ممرًّا يتيح له أن يعطّل المرور إلى شريط غزّة، هذا المخيّم تمّ محوه في أمد ساعتين، في مجرى عمليّة مضادّة للإرهاب كما يزعمون أودت بحياة اثنيّ عشر شخصًا.

أكتب هذه السلطور بُعيد «عمليّة ناتانيا» الّتي لقي فيها مصرعهم عشرون إسرائيليًّا كانوا يحتلفون في أحد الفنادق ببداية «عيد الفصح اليهوديّ». وقبل سبع سنوات، فيما أكتب أيضًا مذكّرات رحلتي إلى إسرائيلة والأراضي المحتلّة، انفجرت «قنبلة بشريّة» مماثلة في المدينة نفسها أوقعت ضحايا عديدة. وأعلن إسحق رابين، رئيس الوزراء يومذاك، أنّه لوضع حدّ لهذه العمليّات الانتحاريّة يبنغي إحداث فصل نهائيّ بين إسرائيل والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. فيما بعد، اغتيل رابين على يد متطرّف إسرائيليّ. واليوم، هو ذا متعصّب آخر، مسؤول، بين «مآثر» أخرى، عن مجزرة صبرا وشاتيلا، يمسك بالدفّة بيد صلبة ويقود إسرائيل إلى حرب لا انتهاء لها وإلى التهديم الذاتيّ لقيمها ووجودها نفسه.

وكما كتبتُ من قبل، فإنّ التاريخ يتكرّر، والانتقام الأعمى الّذي يمارسه شارون بعد «مجزرة ناتانيا» ينبّئ بمستقبل مظلم. وإنّ اجتياح القوّات الإسرائيليّة لرام الله ومداهمة مقرّ الرئيس عرفات قد عجّلا من انفلات الكراهية والعنف. لا يريد شارون مُجاورين، بل عبيدًا كما في عهود إسبرطة. ولن يكون من سلام ولا من هدنة ممكنة دون اتّفاق يضمن للفلسطينيّين الحياة، والعمل، والكرامة داخل دولة معترف بحدودها دوليًّا. وكما كتب أوكتافيو باث متكلّمًا عن القدر المفروض على الشعوب في مجرى التاريخ، فـ «في عالم موصد ولا مخرج فيه، عالم كلّ ما فيه ميّت، يظلّ الشيء الوحيد الّذي يتمتّع بقيمة هو الموت».

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.